أود في هذا الفصل أن أعرض لنماذج مختارة من الآفات والأمراض والمشكلات الحرآية التي تطفو وتظهر على مسرح العمل الإسلامي
وفي بنية الحرآات الإسلامية المعاصرة وذلك بهدف التعرف إلى أسبابها وعواملها وللتأآيد على أنها من نتائج القصور أو الخلل
التربويين وبسبب عدم اعتماد النهج الوقائي في التربية والتوجيه والتخطيط وفي معظم مجالات العمل الإسلامي .
أولاً : الانشقاقات الداخلية في الحرآات :
تعتبر الانشقاقات الداخلية من أخطر الآفات التي تصيب الساحة بهدم الحرآة واستنزافها وإجهاضها من الداخل ..
قد لا تقوى معاول الأعداء مجتمعة أن تنال من الحرآة ما بقيت محصنة من داخلها وقد تجهز عليها فتنة داخلية فتجعلها هباء منثوراً .
وإذا قمنا بدراسة موضوعية دقيقة لاستكشاف الأسباب التي تقف خلف هذه الظاهرة لخرجنا بجملة أمور منها :
ضعف المستوى التربوي
فهنالك خلل ما يجب أن يدفع لاستكشافه ومعالجته فقد يكون من المنهج التربوي وقد يكون من المربى وقد يكون من الاثنين معاً ونجاح
التربية مرتهنة بسلامة المنهج وصلاحية المربى معاً .
وقد يتأتى ضعف المستوى التربوي من قصور في التخطيط أو خلل في خطط العمل بحيث يتضخم جانب من جوانب العمل على الجوانب
الأخرى وقد بسبب استنزاف الحرآة في معارك جانبية لا طائل تحتها ولا فائدة منها أو قد تستهلك آثيراً من طاقاتها في مشاريع لا تقع
في الدرجة الأولى من حيث الأهمية والأولوية .
إن ضعف المستوى التربوي هو الخرق الذي يمكن أن تدلف منه آل العلل والأوبئة والمشكلات إلى جسم الحرآة وهو الذي يفتح الباب
على مصراعيه أمام الفتن .
فهو المناخ المناسب للآفات المساعدة على حصول الهزات والانقسامات في حياة الأفراد والجماعات والحرآات آالغيبة والنميمة وتتبع
العورات والنقد الهدام والتشكيك والإرجاف وعدم التماس الأعذار وعدم التبين والتعصب للرأي والمكابرة والعناد وطرح الخلافات فيغير
مواطن طرحها وإنشاء المحاور وتحريكها وتحويل الخلافات المبدئية إلى خلافات شخصية إلى ما هنالك من آفات وعلل لا تبقى ولا تذر.
إن ضعف التربية يعنى تدنى مستوى التقوى والورع يعنى ضعف قوامة الشريعة على السلوك والأعمال والأقوال والتصرفات عموماً
وهذا يؤدى بالنتيجة إلى السقوط في حبائل الشيطان وشراك الهوى ومضلات النفس الأمارة بالسوء مما فيه هلكة الفرد والجماعة ..
إن ضعف التقوى والورع مدخل إلى الترخص واستصغار الذنوب والتساهل مع النفس مما يؤدى في النتيجة إلى ارتكاب الموبقات
والكبائر تحت شعارات ومبررات وعناوين عريضة آلها في الحقيقة من تلبيس إبليس وهذا ما أشار إليه أنس رضى الله عنه حين قال
(
إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر آنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات)).احتراف النقد والغيبة والنميمة
ومن عوامل الفتن التي تشق الصفوف وتنقض الغزل وتأتى على البنيان احتراف النقد وامتهان الغيبة والنميمة وتتبع العورات وتطاول
الألسن وشيوع ذلك وانتشاره واستساغته وعدم استرذاله بحجة تصحيح الأوضاع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
هذا الداء العضال ابتليت به الحرآات الإسلامية على امتداد الساحة محلياً وإقليمياً ودولياً وآان من نتيجته في آل حين : إحباط النفوس
وتصدع الصفوف وفقدان الثقة وانكشاف الضعف أمام العدو . من هنا آان التحذير القرآني والنبوي من هذه الآفة قوياً صارخاً فقال
تعالى: { لئن لم ينته المنافقون والذي نفي قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين
أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا } .
وعن سفيان بن عبد الله رضى الله عنه قال : قلت يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به قال : ((قل ربى الله ثم استقم )) قلت : يا
رسول الله ك ما أخوف ما تخاف على ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال
(هذا )) .ومن الأمثلة القريبة المعاشة على ما تقدم : أن حرآة من الحرآات الإسلامية أصيبت بهزيمة سياسية أو عسكرية مما فتح الباب على
مصراعيه أمام هذا الداء العضال بدأ بالتلاوم على مستوى القيادة ثم امتد إلى القاعدة حتى نخر بنيتها نخراً ! .
آان هؤلاء لا يتقون الله في أعراض إخوانهم يشرحونهم آما يشرح الطبيب الجثة أو آما يقطع الجزار الدابة من غير تحفظ في التعبير
أو أدب في الخلاف أو موضوعية في النقد أو تخير للأطر التي يجب أن تطرح فيها مقولاتهم ناسين قول الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وقولوا قولا سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيماً } وناسين قول رسوله
صلى الله عليه وسلم وتحذيره ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة
. ((
فكانت النتيجة أن انشق الصف وتصدع البنيان وأصبح صف الحرآة مرتعاً للشيطان ولا حول ولا قوة إلا بالله الملك الديان ..
والإمام النووي رحمه الله خصص في آتابه (رياض الصالحين ) بابا أسماه ( باب [b]
ما يباح من الغيبة ) فقال:
( اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أبواب ):
الأول : الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب .
الثاني : التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان أو غيره لإنصافه .
الثالث : الاستفتاء لتحصيل الحق ودفع الظلم .
الرابع : تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم .
الخامس : ذآر الفاسق بما فيه بعد أن يكون مجاهراً بفسقه .
السادس : جواز تعريف الإنسان بلقب معروف به آالعمش والعرج والحول وإذا أمكن تعريفه بغير ذلك أولى .
اهتزاز الثقة بالقيادة
ومن العوامل المساعدة على تصاعد الحرآات وحدوث الانشقاقات اهتزاز الثقة بالقيادة بما يجرح جدارتها وأهليتها أو ينال من
استقامتها ومصداقيتها لدى القاعدة .
وقد لا يترتب على هذا الأمر شئ خطير وشر مستطير لو أن هذه القيادة أخلت موقعها لغيرها وانسحبت من تلقاء نفسها إذن لسلم
البنيان من الأذى والتصدع .
غير أنه في بعض الحيان يكون العكس هو صحيح فيتشبث القائد بمنصبة ويستغل موقعة ابشع استغلال ...فيقيم المحاور ويحرك
الصراعات ويديرها ويحول مجاري الخلافات لينجو هو ولو هلكت الجماعة بكاملها !نعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا
وصدق الرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول
( إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم )).وفي حالة أخرى قد تكون القيادة فيها مظلومة والخروج عليها محض افتئات وافتراء وتعسف ومع آل ذلك فإنه يحسن بالقيادة أن تحيل
القضية إلى جهة ثالثة لفصل الخطاب فتكون بذلك في مأمن من اللوم والعتاب وابعد عن الشبهة والحساب .
إن القيادة آي تبقى بالمعنى الصحيح لا بد وان تكون في منأى عن الشبهات وبخاصة ما يتصل منها بالشؤون المالية وعليها أن تكون
الزهد والبعد عن آل ما يشتم منه رائحة النفعية وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول (( ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد
في ما في أيدي الناس يحبك الناس )).
وعن عوف بن مالك رضى الله عنه قال ك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهمويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم
)).قلنا : يا رسول الله أفلا ننابذهم ؟قال (لا ما أقاموافيكم الصلاة )).
نشوء مراآز قوى مختلفة
ومما يتسبب بالشقاق والانشقاق قيام مراآز قوى متعددة في الحرآة إضافة إلى ضعف في القيادة يحول بينها وبين ضبط النزاعات
وتحقيق التوازنات ولجم النوازع والتطلعات وحسم الخلافات والصراعات .
وأسباب نشوء مراآز القوى متعددة وآثيرة فقد يطغى الجانب السياسي ويتعاظم شأن القائمين به أشخاصاً وممارسات وقد يطغى الجانب
العسكري فيتولد في المسئولين عنه شعور العجب والفوقية آما حصل يوماً بالنسبة للجهاز الخاص في مصر وتسبب بأسوأ المشكلات
حيث دفعت الحرآة بنتيجة ذلك ثمناً باهظاً وآان مدخلاً إلى محنة مريرة عاتية ..
ومن الأسباب وجود عوامل الكبر والغرور في النفوس أو حب العظمة وتسلق جدران الزعامة بأي ثمن فإذا توافق ذلك مع ظرف من
الظروف قويت هذه العوامل ونمت وبلغت مرحلة اللاعودة حيث يصاب أصحابها بداء العتو والشموخ الذي أصيب به إبليس حين قال
((أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )).
إن طاعة القيادة في الإسلام من طاعة الله ورسوله بحكم قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم
} وبحكم قوله صلى الله عليه وسلم ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص
الأمير فقد عصاني )).
والطاعة هذه تلزم آل الأفراد على مختلف مواقعهم ومراآزهم ولو آانوا أعضاء في مجلس القيادة حتى يكون مصدر الأمر واحداً
ومرجع الطاعة موحداً وإلا تعددت القيادات ونشأت بالتالي مراآز القوى واختل توازن آل شئ ..
وبديهي أن الطاعة المقصودة هي الطاعة بالمعروف لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك )).
ويجوز أن تسحب البيعة من قيادة جاهرت بالكفر والفسوق وانهارت الثقة بها وبات ضررها أآبر من نفعها بإجماع الثقاة من أهل الحل
والعقد ممن اختاروها وولوها أما الخروج على القيادة وتشكيل المحاور وإيغار الصدور والتحريض على الفتنة والأذى والعدوان فإنه
من مضلات الهوى ونزعات الشيطان وليس له فيشرع الله دليل أو برهان ..
إن حدود اعتراض الأفراد على سياسة ما أو موقف ما يجب أن ينحصر في المجالات التالية:
أ- أن تكتنف مسألة ما بشبهة مما يعرضها للمفسدة فإن على الأفراد في هذه الحالة واجب التبين والتنبيه ليس إلا .
ب- أن يختلف على تقدير تحقق أو عدم تحقق مصلحة ما فهذا وإن آان من حق القيادة فليس من ضير على الأفراد من التنبيه ولفت
النظر .
ج- أما حق الأفراد في معصية القيادة وعدم طاعتها فينحصر في حال معصيتها القطعية والثابتة لله وعدم وجود أي مبرر شرعي
لمواقفها وممارساتها وقيام الحجة عليها فيذلك .
فعن عبادة بن الصامت قال : دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا ((أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا
ومكرهنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا آفراً بواحاً عندآم من الله فيه برهان )).
إن لتعميق معاني الطاعة مفاهيم شرعية يجب أن تربى القاعدة عليها ومنها إن من حقوق القيادة المفاضلة بين السياسات الجائزة
واختيار ما يتناسب والظروف والمصلحة فقد آان الرسول صلى الله عليه وسلم في موقفه من الأسرى يمن على بعضهم ويقتتل البعض
الآخر ويفادى بعضهم بالمال وبعضهم بأسرى المسلمين وقد فعل ذلك آله بحسب المصلحة ).
والقيادة لها الحق الشرعي في أن تحارب أو تهادن أو تحالف حسب المصلحة ومقتضى الضرورة شرط أن يكون ذلك بعد تمحيص
الآراء والاستشارة .
وللقيادة الخيرة في الأخذ بواحدة من هذه السياسات واستحسان وتفضيل بعضها على بعض بحسب اجتهادها وتقديرها آما على الأفراد
أن يلتزموا اختيارات القيادة ولو آانت مخالفة لآرائهم وقناعاتهم إلا أن يروا فيما اختارته القيادة وقررته خروجاً على الإسلام وتعريضاً
واضحاً بمصلحة المسلمين ،وعندئذٍ يتعين عليهم مكاشفتها بالدليل الشرعي و الحجة البينة ، وفي حدود آداب التواصي بالحق وأصول
النقد المباح .
فشل الحرآة أو هزيمتها
ومما يتسبب بالخلاف و الشقاق ، ويفضي إلى الانشقاق :
فشل الحرآة في قضية ذات أهمية ، أو انهزامها في معرآة ، وبخاصة إذا تمحور السبب بالقيادة ، وآانت أصابع الاتهام مشيرة إليها
وحدها ، فهنا تتحرك في النفوس أهواءها ويبتعث ما دفن وعفي عليه الدهر من سقطات وأخطاء ، وآأنها فرصة العمر وسانحة الدهر
يجب اهتبالها !
فتنسى في تلك اللحظة المعاني الشرعية آلها ... فلا موضوعية ، ولا تثبت ، وإنما هوى متحكم ونفوس مشرئبة ، وفتنة هائجة يرتع
فيها إبليس على هواه و العياذ بالله تعالى ! .
وفي غفلة من النفس ، وانسياق مع الشيطان ينسى الأخ أخاه ، ينسى أن " المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله " ، وأن "
آل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه " .
ينسى آل ذلك ويتحول وحشاً آاسراً ينهش إخوانه دون مخافة من الله أو استحياء منه تعالى ... ألا قتل الإنسان ما أآفره ! .
في تاريخنا المعاصر تجربة مرة وقاسية ، اسأل الله أن يخرج أصحابها من الفتنة التي وقعوا فيها قبل أن تمزقهم شر ممزق ، آان
السبب المباشر لهذه الفتنة ما سبق وأشرنا غليه ... فقد وقعت بساحتهم هزيمة دفعت الحرآة ثمنها باهظاً من رجالها وشبابها ، وآان
التلاوم وتبادل الاتهام ، وآان النقد و التجريح ثم ارتفعت وتيرة ذلك إلى الحد الذي ولد الغل و الحقد وآرس انشقاق الصف قاعدة وقيادة
و العياذ بالله تعالى .
ولو أن هؤلاء جميعاً التزموا أدب الإسلام في الخلاف لفض لساعته ، ولكنها النفس المارة بالسوء ، النفس التي تنسى في ساعة الغفلة
وارتكاس الإيمان آل القيم و التوجيهات القرآنية و النبوية ، وآأنه طبع عليها بالطابع الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقوله " الطابع معلق بقائمة عرش الله عز وجل ، فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترئ على الله بعث الله الطابع فيطبع على
قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئاً " .
جاء في آتاب ( أدب الاختلاف في الإسلام ) ما يلي :
( من خلال استعراضنا لقضايا الاختلاف نلحظ أن الهوى لم يكن مطية أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، وإن الخلافات التي
أفرزت تلك الآداب لم يكن الدافع إليها غير تحرى الحق ، آانوا يتحاشون الاختلاف وهم يجدون عنه مندوحة ، فهم يحرصون آل
الحرص على عدمه ، وحين يكون للخلاف أسباب تبرره يسارعون للاستجابة للحق ، والاعتراف بالخطأ ، دون أي شعور بالغضاضة ،
لا يجاوز أحد منهم قدر نفسه ، ولا يغمط حق أخيه ... وآل منهم يرى أن الرأي مشترك ن وأن الحق يمكن أن يكون فيما ذهب غليه ،
وهذا هو الراجح عنده ، ويمكن أن يكون الحق فيما ذهب إليه أخوه ، وذلك هو المرجوح ، ولا مانع أن يكون ما ظنه راجحاً هو
المرجوح ، ولا شئ يمنع أن يكون ما ظنه مرجوحاً هو الراجح .
آانت أخوة الإسلام بينهم أصلاً من أصول الإسلام الهامة التي لا قيام للإسلام دونها ، وهي فوق الخلاف أو الوفاق في المسائل
الاجتهادية .
إن اختلاف الأولين ، و الذي وصل إلى حد الاقتتال ، لم يخرج هؤلاء على أدب الإسلام في الخلاف ، فالخلاف بين على ومعاوية على
شدته ، لم يخرج واحداً منهما عن طوره وأدبه ، فقد اخرج أبو نعيم عن أبى صالح قال : دخل ضرار بن صخرة الكنانى على معاوية ،
فقال له : صف لي عليا فقال : أو تعفيني يا أمير المؤمنين ؟ قال : لا أعفيك ، قال : أما إذا لابد ، فإنه والله بعيد المدى ، شديد القوى
يقول فصلاً ن ويحكم عدلاً ، ويتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواصيه يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل
وظلمته ، آان والله غزير العبرة ( الدمعة ) طويل الفكرة يقلب آفيه ويخاطب نفسه ن يعجبه من اللباس ما قصر ، ومن الطعام ما جشب
( خشن ) آان والله لأحدنا ن يدنينا إذا أتيناه ، ويحيينا إذا سألناه ، وآان مع تقربه إلينا وقربه منا لا نكلمه هيبة له .
فإن يبتسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم ، يعظم أهل الدين ويحب المساآين ، لا يطمع القوى في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فاشهد
بالله لقد رايته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه يميل في محرابه قابضاً لحيته ، يتململ تململ السقيم ، ويبكى
بكاء الحزين فكأني اسمعه وهو يقول : يا ربنا يا ربنا ، يتضرع إليه ن يقول للدنيا : إلى تعرضت ؟ إلى تشوفت ؟ هيهات هيهات ، غري
غيري ، قد بتتك ثلاثاً ( أي طلقتك ) فعمرك قصير ومجلسك حقير وخطرك يسير ، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق .
فوآفت دموع معاوية على لحيته ما يملكها ، وجعل ينشفها بكمه ، وقد اختنق القوم بالبكاء ، فقال معاوية ، آذا أبو الحسن رحمه الله ...
وينال أحدهم من أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بمحضر من عمار بن ياسر - الذي آان على غير موقفها يوم " الجمل " فيقول له
رضى الله عنه
اسكت مقبوحاً منبوحاً ، أتؤذى محبوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشهد إنها زوجة رسول الله صلى الله عليهوسلم في الجنة لقد سارت أمنا عائشة رضى الله عنها مسيرها وإنا لنعلم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة
... ولكن الله ابتلانا بها ليعلم إياه نطيع أو إياها ) .
ثانياً : الانهيار الكامل للحرآة
وبعض الحرآات تتعدى إصابتها حدود الانقسامات والانشقاقات فتصاب بالانهيار الكامل وقد تندثر وتصبح أثراً بعد عين ...
وفي تاريخنا المعاصر حرآات قامت ثم بادت .
وأجدنى في هذا المقام أمام حرآة قامت في بلدنا ونمت بسرعة عجيبة وذاع صيتها في الآفاق ، ثم ما لبثت أن تهاوت وانفرط عقدها ،
ولم يبق من آثارها إلا ما خلفته وراءها من سلبيات على ساحة العمل الإسلامي
ومن فقرات البيان الأول الذي صدر عن هذه الحرآة تتضح معالم النهج المعتمد لديها و القائم على المفصلة المعلنة من أول يوم مع آل
القوى والأنظمة و التنظيمات ن ودون أن يسبق ذلك إعداد وبناء وضبط وتنظيم لكل المقومات و الطاقات البشرية و التقنية والمنية و
العسكرية والاقتصادية و الطبية وخلافها .... مما أقحم الحرآة في أتون الصراعات و التصفيات المتلاحقة وافقدها القدرة على التحكم
في زمام نفسها وخطاها ومواقفها وسياساتها وتصرفاتها ، وهذا ما جعلها عرضة لردات الفعل المختلفة ، وطعما سهلاً لاستدراج القوى
و السياسات المعادية للإسلام ، وبذلك انتهت وحكمت على نفسها بالإعدام ! .
عوامل الضعف في هذه الحرآة :
تميزت هذه الحرآة بخصائص آانت جديدة وملفتة ومثيرة في ظاهرها ، ولكنها آانت مضرة وخطيرة ، بل آانت السبب الذي قوض
بنيانها ودك أرآانها ، وسنتناول في هذا المقام بعضاً من هذه العوامل على سبيل الدراسة و العبرة :
-1 جماهيرية العمل :
اعتمدت هذه الحرآة في دعوتها للإسلام النمط الجماهيري ، وصولاً إلى خلق تيار إسلامي عام ، وبتعبير خاص ( نقل الإسلام من
الحالة التنظيمية وجعله حالة شعبية ) ... ولقد آان هذا المنحى قاسماً مشترآاً بين أطراف الحرآة حتى قبل قيامها ، حيث آان هؤلاء
يأخذون على ( الحرآة الإسلامية ) تشبثها بالعقد و القيود التنظيمية وتمحور العمل في إطار التنظيم ، علماً بأن هذه الحرآة تحولت بعد
فترة من قيامها إلى صيغة تنظيمية وبنية حزبية جديدة ...
والحقيقة إن اعتماد السياسة الجماهيرية منذ اللحظة الأولى لنشأة الحرآة لم يترك لها مجالاً لتكوين بينتها التنظيمية وأجهزتها العاملة
القادرة على ضبط وتوجيه الشرائح الشعبية الملتحقة بها .. والعمل الجماهيري يمكن أن يكن ناجحاً إذا أمكن ضبطه وترشيده
واستيعابه ...
ولقد تسبب العمل الجماهيري لدى هذه الحرآة إلى ولوج عناصر شتى إلى صفها بل إلى مواقع مهمة وخطيرة فيها ..
- من هؤلاء من ليس لديه أدنى فهم للإسلام حتى ما ينبغي أن يعرف من الدين بالضرورة ..
- ومنهم من دخل الحرآة لغاية ما في نفسه مادية أو سياسية أو أمنية الخ ...
- ومنهم من آان عيناً على الحرآة برصد حرآاتها ويستطلع أسرارها ويسبر أغوارها ...
وهكذا أصبح جمهور الحرآة خليطاً متناقضاً متفاوتاً في ولائه للإسلام ولحرآة مما جعل الجماهيرية ) عبئاً على الحرآة وعامل إيذاء
يومي لها ولسمعتها ...
-2 الاهتمام بالشعار :
إن النمط الجماهيري في العمل يعتمد عادة على الشعار أآثر من المضمون وذلك لسهولة نقله وتداوله والحرآات التي لا تتمكن من
تحويل الشعار إلى مضمون وترجم الشكل إلى محتوى تفقد قيمتها وفاعليتها تكون بالتالي أعجز عن تحقيق أهدافها الكبرى والبعيدة
والإسلام رآز اهتمامه على المضمون والمحتوى من غير إغفال للشعار والشكل وآما أنه حرص على تحقيق نصاعة ونظافة المظهر
والجوهر إلا أنه اختص الجوهر باهتمام أآبر فمن قوله تعالى { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم آأنهم خشب
مسندة يحسبون آل صيحة عليهم الآية } ومن قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم (( إن الله لا ينظر إلى أجسادآم ولا إلى صورآم
ولكن ينظر إلى قلوبكم )).
والحرآة هذه أولت الشعار الاهتمام الأآبر ولم تتمكن من ترجمة الشعار إلى فعل عمل يومي يراه الناس ويلمسونه .. بل آان العمل في
آثير من الأحيان مخالفاً للشعار متعارضاً مع المظهر .. وآان هذا من أشد عوامل الهدم في جسم الحرآة ....
إن مئات من الرايات الإسلامية والشعارات الإسلامية والملصقات الإسلامية ليست هي السبيل لتحقيق التغير الإسلامي وإقامة حكم الله
في الأرض ما لم يتم ترجمة مضمون هذه الرايات والشعارات والملصقات في واقع حياة الناس وأخلاقهم وقوانينهم .
-3 الاهتمام بالكم :
من الأمراض الفتاآة التي تصيب الحرآات عموماً والتي أصابت هذه الحرآة انشغالها بالكم عن الكيف وانصرافها إلى توسعة رقعة
انتشارها بدل ترآيز هذا الانتشار وتأصيله وتجذيره ...
والإسلام على عكس هذا تماماً فقد اهتم بالنوع لا بالعدد وشغل باستنهاض القيم في الإنسان والارتقاء به في مدارج الكمال البشرى ولم
يكن همه يوماً تكديس الأفراد للوصول إلى رقم أآبر .
ويوم بدر انتصرت النوعية الجيدة على قلتها بينما انهزمت الكثرة في حنين حيث خالطها شئ من رياء ليتأآد من ذلك أن النصر
للمؤمنين ولو آانوا قلة وأن وراثة الأرض لعباد الله الصالحين { ولقد آتبنا في الزبور من بعد الذآر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون
. {
ولم يكن الكم يوماً إلا عبئاً على الحرآة الإسلامية لأن الكم مرتبط دوماً بمتاع الحياة الدنيا حيث وصفه في قول الله تعالى { زين للناس
حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله
عنده حسن المآب ..}
ومن هنا يمكن ن نفهم سر انتقاء الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله للقادة الأربعة الذين أرسلهم لمساندة عمرو بن العاص يوم
فتح مصر حيث آتب له قائلاً ( إني أمددتك بأربعة آلاف رجل على آل ألف رجل رجل منهم مقام الألف : الزبير بن العوام والمقداد بن
عمر وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد واعلم أن معك اثني عشر ألفاً ولا تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة ).
-4 غلبة الاهتمام العسكري :
ومن الظواهر التي اتسمت بها هذه الحرآة غلبة الاهتمام العسكري لديها على أي اهتمام آخر ..
وهذا ما دفع بالشباب اليافع والمراهق الذي يهوى حمل السلاح إلى الالتحاق بالحرآة بل هذا ما أغرى حملة السلاح وتجاره من
قبضايات الأحياء وأصحاب السوابق والمنافع المختلفة برآوب الموجة والاحتماء بغطائها والضرب بسيفها ..
والحقيقة أن القوة العسكرية سلاح ذو حدين إن لم يضبط ويحسن استعماله آان وبالاً على صاحبه وبخاصة إن آان هذا السلاح بيد غير
أمينة ومع أناس لا يخافون الله ولا يتقونه ..
لقد تسببت هذه الظاهرة بممارسات شاذة على الساحة الإسلامية حيث استخدمت القوة العسكرية في الاعتداء على أموال الناس
وممتلكاتهم ووظفت في سبيل تحقيق المصالح والمنافع الشخصية فكم من بيوت أخليت بقوة السلاح وآم من عقارات اشتريت بأثمان
بخسة بقوة السلاح وآم من (خوات ) فرضت على الأفراد والمؤسسات بقوة السلاح وآم من آرامات ديست ومقامات أهينت بقوة
السلاح
ثم إن امتلاك القوة العسكرية قبل امتلاك القوة الإيمانية والكفاءة الخلقية والوعى السياسي والانضباط التنظيمي مدخل نفسي إلى آل
الآفات النفسية آالعجب والغرور والاستعلاء وهي من الصفات التي يجب أن ينأى الإنسان العادي عنها فكيف بمن نصب نفسه داعية
للإسلام وعاملا على ساحته؟؟
والحرآة التي تسكرها مظاهر القوة وتخدعها الأعداد الكبيرة من المؤيدين تندفع بغير وعى إلى امتلاك الساحة والتحكم فيها وإخلائها
من آل قوة أخرى ولو آانت إسلامية !!! ذلك أن الحرآة ذات النزعة العسكرية تحرص على الانفراد بساحة العمل وعلى تصفية آل
المنافسين ولو آانوا حلفاء مرحلة أو أنصار قضية .
من هنا لا بد للقوة العسكرية من أن يحكمها الشرع ويلجمها العقل وهو ما عبر عنه الإمام الشهيد حسن البنا في معرض آلامه عن
موقع القوة في موقع الحرآة حيث قال : (أما القوة الإسلامية في آل نظمه وتشريعاته .. والإخوان المسلمون لا بد أن يكونوا أقوياء
ولابد أن يعملوا في قوة ولكن الإخوان أعمق فكراً وأبعد نظراً من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر فلا يغوصوا إلى أعماقها ولا
يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها فهم يعلمون أن أول درجات القوة قوة العقيدة والإيمان ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط ثم
بعدهما قوة الساعد والسلاح ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعاً وأنها إذا استخدمت الساعد والسلاح
وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك ..
هذه نظرة ونظرة أخرى : هل أوصى الإسلام والقوة شعاره باستخدام القوة في آل الظروف والأحوال ؟ أم حدد لذلك حدوداً واشترط
شروطاً ووجه القوة توجيهاً محدوداً ؟ .
ونظرة ثالثة : هل تكون القوة أول علاج أم أن آخر الدواء الكي ؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة
ونتائجها الضارة وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون ؟ .
-5 علانية آل شئ :
ومن الأخطاء التي ارتكبت على الساحة الإسلامية من قبل الحرآة هذه العمل بعكس قاعدة (ليس آل ما يعلم يقال ) بل بسياسة( التفكير
بصوت عال ) وبسياسة آشف آل المواقع الأهداف والخطوات القريبة والبعيدة وهذا آله مخالف للنهج النبوي الذي آثيرا ما أآده
الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله
( استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان وفي القرآن الكريم إشارات آثيرة إلى هذه المعاني منها :وصية يعقوب عليه السلام لبنيه { وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله شيئاً } وهذه
إشارة من نبي من أنبياء الله إلى ضرورة الأخذ بكل أسباب الحيطة والحذر وعدم آشف القوى والأشخاص والأمثل في آل الأحوال
الالتزام بقاعدة(علانية العمل وسرية التنظيم ) وصدق الله تعالى حيث يقول { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذرآم فانفروا ثبات أو انفروا
جميعاً } .
والحقيقة أن سياسة العمل في نقطة الضوء أو بالعبارة الدارجة(على المكشوف ) أدت إلى آشف وتعرية ساحة العمل الإسلامي مما
ساعد على رصدها ومعرفة تفصيلات تحرآاتها واستكشاف رجالها وقياداتها وقواها جميعاً فكل شئ أصبح على السطح وعبر وسال