بقلم: د. زاهي حواس
أثبت الموقف المصري, المستند إلي حقائق التاريخ والتقويم الحقيقي لمواقف الأشخاص والأحزاب ونياتها من وراء كل خطوة أو إعلان نقوم به, قدرته علي معالجة الأحداث الدامية التي لاتزال تعصف إلي الآن, ليس بغزة وحدها, ولكن بالعالم كله, أجبرت المجزرة الإسرائيلية المعلقة التليفزيونية الإسرائيلية علي البكاء وهي تنقل تقريرا مصورا عن القنابل الذكية جدا, لدرجة أنها تنتقي الأطفال والشيوخ والنساء لقتلهم بلا رحمة, وعلي الجانب الآخر من موقع المجزرة نجد العالم يصرخ ويولول لبشاعة الأمر دون فعل أي شيء لوقف إسرائيل, وحينما يعلو صوت رئيس أو مسئول في أي دولة في العالم بالتنديد بالأحداث الدامية في فلسطين المحتلة, نجده قبل أن يذكر إسرائيل يحث حماس علي وقف اعتداءاتها بصواريخها علي المدن الإسرائيلية, ووقف الأعمال الإرهابية, ثم يدعوا إسرائيل إلي التهدئة وضبط النفس, وبالطبع العذر كل العذر لشعوبنا العربية التي علا ضغط دمها, وأصيب الصغار قبل الكبار بأمراض السكر والقلب, لما يرونه ويسمعونه من أكاذيب وافتراءات, وقد أصبحت الضحية هي الجاني, والجاني هو الضحية, وذلك في ظل انقسام الصف العربي.
ذكرت في المقال السابق أن مصر دفعت ولاتزال الكثير من أجل فلسطين حتي قبل بداية المواجهات العربية ـ الإسرائيلية في عام1948, وهنا لابد من التذكير والتوعية بالدور الذي قام به الراحل أنور السادات, الذي هو بحق وبشهادة التاريخ أول من درس وبشكل عميق نفسية إسرائيل وقادتها, وعرف نياتهم وكشفها للعالم كله, واستطاع أن يقيم معهم سلام من منطلق القوة, وكان فكره أبعد من أن تستوعبه المنطقة العربية, فراح العرب يلعنونه ويتهمونه بالخيانة, واليوم يندمون علي أنهم لم يتبعونه.
لقد كانت دهشتي عظيمة وأنا أري تلك الهجمة الشرسة علي مصر التي تتهمنا بتخلينا نحن المصريين عن واجبنا نحو فلسطين وأبنائها, بل وصل الأمر إلي التطاول علي كل ما هو مصري واتهمنا بالعمالة والخيانة وخدمة الأهداف الصهيونية, وهي تهم من كثرة استخدامها لقذف من يعادونه أصبحت غير ذات معني, كلام أجوف استخدم في عصور الظلام لإلقاء الأبرياء في غياهب السجون والمعتقلات, لم نتعلم من دروس الماضي مادمنا مصرين علي انقسامنا الذي كان من نتيجته اختزال كل هذا الدم المراق في فلسطين المحتلة في قضية وهمية سموها قضية المعبر وكأنه كان يجب علي مصر أن تفتح أراضيها ليهرب الفلسطينيون من أرضهم وديارهم ويهبطون إلي مصر, ولتنعم إسرائيل بالأرض كلها, وليطمئنوا هم علي عروشهم, لكن المشكلة أن عندنا رئيس يفهم القضية جيدا, ويؤمن أن سيناء لن تكون أبدا كبش فداء لاسرائيل, لقد أعلن الرئيس مبارك منذ اليوم الأول للعدوان علي غزة أن خطة إسرائيل من وراء هذا العدوان لن تثمر سوي مزيد من الخراب والدمار, ليس علي الجانب الفلسطيني فقط, بل وعليهم هم أنفسهم, ودعا الجميع إلي البحث عن حلول أخري أكثر واقعية, فمصر لن تعطي أرضا لتحل مشكلات دولة محتلة,
يجب علي الشعب اليهودي أن يقرأ التاريخ جيدا, لكي يتفهم أن غطرسة القوة كما قال الرئيس مبارك لن تقهر مقاومة شعب محتل مسلوب الحقوق, وأن الفلسطينيين سكان الأرض علي مدي تاريخهم لم يزعنوا لمحتل أو معتد, ولهم تاريخ عظيم في الجهاد حتي إن اليهود أنفسهم, كما ذكر القرآن الكريم, وصفوهم بأنهم قوم جبارين.
والكتب السماوية تحفظ لنا قصصا تاريخية فيها العبرة والعظة, فلننظر كيف كانت قوة وجبروت الفرعون المصري وما سقاه لليهود من عذاب, وعلي الرغم من ذلك لم يستطع وجيشه تدمير هذه الفئة المقهورة, فهل يعلم اليهود من هذا التاريخ الذي مر عليه أكثر من ثلاثة آلاف عام؟! كثيرة هي دروس التاريخ التي لابد لليهود عامة, وشعب إسرائيل خاصة, أن يقرأوها ويعتبروها, فالقوة ليست هي المعيار الحقيقي للنصر, لكن هناك معايير أخري أعتقد أنها ليست في مصلحة إسرائيل, منها: الحق في العيش علي أرض الأجداد, والحق في الحياة مثل كل البشر دون تفرقة, والحق في أن يحكم بالعدل, وأن يسود النظام والحق بين الناس. لقد اختزل المصري القديم كل هذه المعاني والقيم, وصاغها في قيمة واحدة سماها الماعت, وبدونها لم يكن للملك المصري الحق في أن يحكم, ولا كان للمصريين أنفسهم الحق في الحياة, وكان كل نصر يحققونه في مجالات الحياة كانوا يرجعونه إلي كونهم متمسكين بـالماعت, وكانت حروب المصريين القدماء ليست من مبدأ استعمار دول أخري, فكانت أرض مصر هي جنة الله علي الأرض بالنسبة للمصريين القدماء, يحيون تحت شمسها, ويعملون بكل جد وإخلاص وإيمان في حقولها ومناجمها ومصانعها, لذلك بنوا أكبر وأعظم حضارة إنسانية. لقد نسي الإسرائيليون دروس التاريخ, بل لعلهم يقرأون توراتهم وأسفارهم بطريقة غير التي نقرأها نحن, وإلا فلماذا هذا الإصرار الغريب علي تجاهل هذه الدروس؟ إن من أهم المصادر التي تمدنا بمعلومات مهمة عن علاقة اليهود ببلاد ما بين النهرين, أو العراق القديم, هي كتابات العهد القديم, وما جاء في سفر الملوك الثاني وأسفار أخبار الأيام وأراميا ودانيال وحزقيال ومعلومات أخري في سفر أشعيا وعزرا, وهي تتناول علاقة نبوخذ نصر الثاني المباشرة مع اليهود, سواء في فلسطين أو بابل, وما جاء في هذه الأسفار من أخبار السبي البابلي الأول حينما أخذ نبوخذ نصر نصف شعب إسرائيل أسري مكبلا بالسلاسل إلي بابل, وقد حكم هذا الملك43 عاما في604 ق.م, واشتهر في التاريخ بفضل ما كتب عنه في الكتاب المقدس, ولقد هاجم نبوخذ نصر أورشليم عام600 ق.م, وقد كان ولاء يهوذا مذبذبا بين مصر وبابل, فبعد أن هزم الملك المصري نيكاو الثاني الحاكم اليهودي يوشيا في معركة مجدو608 ق.م, وعزل ولده وعين علي المدينة يهويا وألزمه الجزية, ظلت الأمور علي هذا الحال حتي انقلب اليهود مرة أخري علي مصر بعد موقعة قرقميش التي انتصر فيها نبوخذ نصر الثاني عندما كان وليا للعهد علي الجيش المصري, وظلت دولة اليهود في أورشليم علي ترددها ما بين الانتماء إلي مصر والتحالف معها ضد بابل, أو العكس, حتي قام نبوخذ نصر بالهجوم عليها عام600 ق.م, واستسلمت له بسهولة وخضع له حاكمها يهويا بإرادته ونقل اليهود الأسري إلي مدينة بابل, وزحف نبوخذ نصر علي مصر مرة أخري عام601 ق.م, إلا أن كلا الجانبين تكبد خسائر فادحة في معركة نشبت في مكان غرب الحدود المصرية, وأرغم نبوخذ نصر علي الانسحاب إلي بابل وإعادة تجهيز جيشه بينما لايزال الفرعون المصري يحاول التقدم نحو سوريا, وبالطبع, وكعادة اليهود في انتهاز أي فرصة للانقلاب علي حاكمهم, استغلوا أخبار الخسائر البابلية وتشجع يهويا الذي لم تردعه تحذيرات النبي يرميا علي الامتناع عن دفع الجزية لبابل وتحويل ولائه إلي مصر, وقد برهنت الأحداث أن يرميا كان أكثر خبرة من يهويا, حيث أرسل نبوخذ نصر قواته عام579 ق.م لمحاصرة أورشليم وأسر ابن يهويا مع عائلته وكبار المسئولين الحكوميين والعسكريين والصناع إلي مدينة بابل. ظلت دولة يهوذا خاضعة للبابليين11 عاما, وكان حاكمها هو صدقيا المعين من قبل نبوخذ نصر, ثم انقلبت مرة أخري علي بابل بعدما أقنع تجدد النشاط المصري في فلسطين, وانقسم أهل أورشليم حينذاك إلي شعبين, شعب تزعمه صدقيا وتحالف مع مصر, وآخر تزعمه أرميا الذي دعا إلي وضع أعناق اليهود تحت نيران ملك بابل بأمر الرب, ونتيجة تعارض دعوتهما دعا كل منهما إلي إنكار نبوة الآخر.
لقد كان رد فعل نبوخذ نصر عنيفا حيث أرسل جيشا لمهاجمة أورشليم, وشدد الحصار عليهم, وجاءت جيوش الملك المصري لمساعدتهم حتي غادرت الجيوش البابلية وفكت حصارها الأول ثم عادت وضيقت الخناق علي أورشليم مرة أخري حتي تمكنت من دخولها عام586 ق.م بعد18 شهرا من الحصار انتشرت خلالها مجاعة شديدة فتكت بالمدينة وأهلها, وهرب صدقيا, إلا أنه وقع في الأسر ونقل إلي مقر نبوخذ نصر علي نهر العاصي في سوريا, وهناك ذبح أبناؤه أمام عينيه ليكون سفك دم أولاده آخر منظر يراه قبل أن يذبح هو الآخر.
صفحات سود من تاريخ اليهود محاضرة للشيخ محمد حسان
جميلة جدا على الرابط التالى
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]