بسم الله الرحمن الرحيم
القضاء هو عماد السلطات الثلاث للدول التي أخذ بمبدأ تعدد السلطات ، والمقصود بتعدد السلطات هو فصل السلطة التشريعية عن تلك التنفيذية وعن القضائية ، بل لتصبح نظرتنا أوسع من كونها عماد لكيان الدولة ، حيث لا يتصور رقي وتقدم دولة ما مالم تكن سلطتها القضائية متقدمة في إصدار أحكامها وطريقة الوصول اليها ، لذلك وللوصول لأحكام قضائية عادلة لابد من تحقق نزاهة القضاء ،وفي حديثنا عن نزاهة القضاء يجب علينا ان نتطرق للأمور والمبادئ التي من شأنها الوصول بنا الى تحقيق هذا المبدأ لكي يوصف الحكم القضائي بأنه حكم صحيح يحقق مبدأ العدالة ، وسنتحدث في هذا الموضوع عن الأمور التالية : تعريف القضاء وأشخاص السلطة القضائية ، مفهوم نزاهة القضاء وشروطها، صور و مفاهيم إستقلال السلطة القضائية ، إستقلال المدعين العاميين والمحققين لتحقيق نزاهة القضاء ، إستقلال المحامين لتحقيق نزاهة القضاء .
بسم الله نبدأ
تعريف القضاء وأشخاص السلطة القضائية :
قبل أن نتكلم عن السلطة القضائية ونخوض في الجزئية المتعلقة بنزاهة السلطة القضائية والأمور المعلقة بها ، لابد لنا أن نجيب عن تساؤل يلح علينا بشدة ، هذا السؤال أو التساؤل هو : ما هي السلطة القضائية ومن هم أشخاصها ؟ . ومن هذا المنطلق يظهر لنا تعريفاً للقضاء لعله هو أشمل التعاريف التي جائت بهذا الصدد وكما عرفه علماء الشريعة بأنه ((سلطة شرعيّة على النفوس والأعراض والأموال، بما جعلها الله عزّوجلّ، ولا يختص بمورد التخاصم والتنازع، وإن كان الغالب فيها مع عدم بسط اليد، بل يشمل كلّ ما فيه صلاح الناس، من إيجاب أُمور وتحريم أُخرى فيما فيه الصلاح، وتتّسع تلك السلطة وتضيق بحسب بسط اليد وضيقها )) ولعلنا نستنتج هنا ومن خلال هذا التعريف بأن القضاء هو الطريقة النهائية والجبرية لإنقضاء الخصومة على أن تحقق هذه الطريقة العدل التي أمر به الله عز وجل ولو كان الحد الأدنى منه ، لذلك يظهر لنا أشخاص يمثلون القضاء في عصرنا الحالي وظيفتهم الأساسية والرئيسية هي إحقاق الحق والحكم بالعدل ، لذلك نرى أن أشخاص القضاء أو إن صح القول تحت ظل الدول التي تعمل بمبدأ تعدد السلطات نجد أنهم مقسمون الى قسمين هما كالآتي :
1- أشخاص رئيسيين في السلطة القضائية :
وهم أعضاء الهيئة القضائية من قضاة وهيئة المحلفين في بعض الدول ومن في حكمهم .
2- أشخاص مساعدين للأشخاص الرئيسيين وهما :
أ– المدعون العامون والمحققون.
ب- المحامون .
ولكل منهما وظيفته في مساعدة الأشخاص الرئيسيين في السلطة القضائية للتوصل الى حكم عادل يحقق العدل بين البشر وإنقضاء الخصومة .
ونستعرض أشكال والصور والطرق التي تحقق أكمل صورة من صور نزاهة السلطة القضائية كلأ ممن ذكروا على حداً ، ولكن نصيب الأسد من هذا الشرح سوف يكون للهيئة القضائية لأنهم هم عماد السلطة القضائية .
مفهوم نزاهة الهيئة القضائية وشروطها :
بصورة عامة لابد أن نعلم أن نزاهة القضاء تعني إجراءات واحكام قضائية عادلة حيادية منزهة عن كل ما قد يشوبها من عيوب سواء كانت عيوب تعسفية أو تقديم مصلحة طرف على آخر أو كانت غير ذلك ، ولكن من أين نشأ مفهوم النزاهة القضائية ؟ . فلو تأملنا قليلاً في مبدأ إستقلال القضاء والذي يعد وليداً لمبدأ تعدد السلطات سنجد أن الحكمة من إنشائه هو تحقيق قضاء عادل نزيه حيادي لا يشكك أحداً من العامة في نزاهته لكي يقنع بكل ما يصدر عن هذا القضاء من أحكام ، ولا يشترط أن تصبح هذه النزاهة مشوبة بعيب مادي بل قد يكون خدش نزاهته عائداً لكون العيب الذي شابه عيب معنوي كأن يصبح رئيس السلطة التنفيذية هو نفسه رئيساً للسلطة القضائية ، ولعل هذا هو أكبر المعوقات التي توجه مسار نزاهة القضاء الى طريق التلاشي .
ولكن السؤال هنا هو كالآتي : متى يقال عن هذا القضاء نزيهاً ومتى يصبح غير ذلك ؟ . والإجابة على هذا السؤال تكمن في معرفة شروط النزاهة القضائية ليست شروط تحقيقها ، وإنما هي شروط الحكم على هذا القضاء بأنه قضاء نزيه هما شرطان إثنان على سبيل الحصر لا المثال وهما كالآتي :
1- الحياد في إصدار الأحكام .
2- العلنية في الجلسات إلا في بعض الجلسات التي تدعو الحاجة لهذه السرية حفاظاً على حسن سير الدعوى أو لسبب ما يتطلب السرية .
كما أنه لا يمكن تصور وجود قضاء منزه عن الشبهات دون وجود هذان الشرطان ، أو إن صح القول هاتان الصفتان .
ولكي نحقق مفهوم النزاهة القضائية على أكمل وجه لابد لنا أن نحقق مبدأ الإستقلال بالصورة التي جاء بها هذا المبدأ وقد أخذت هذه الصورة عدة مفاهيم نستعرضها في الجزء المخصص لها كما سيأتي معنا .
صور و مفاهيم إستقلال الهيئة القضائية :
كما ذكر معنا سالفاً أنه لا يمكن تصور وجود نزاهة قضائية مالم يكن هناك إستقلال للسلطة القضائية عن سابقتيها السلطتين التشريعية والنفيذية ، ولكن كيف يتحقق ذلك الإستقلال ؟. الإستقلال القضائي يكون على صورتين هما كالآتي :
1- إستقلال مؤسسي : وهو إستقلال الهيئة القضائية لهذه السلطة عن غيرها من السلطات الأخرى وهو يتمثل في عدة جوانب لا يمكن تحقيق الإسقلال المؤسسي للقضاء الا بتوافر إستقلال هذه الجوانب عن مثيلتها في السلطتين الآخرتين والإستقلال المقصود في الإستقلال المؤسسي هو الآتي :
أ-إستقلالها في الأمور الإدارية وإدارة شئونها بنفسها دون تدخل من أياً من السلطتين الأخرتين كالتنظيمات الداخلية وتقسيمات الإختصاص وغيره من الأمور الإدارية .
ب-إستقلالها في الأمور المالية عن باقي السلطات ولكن المقصود بالإستقلال هنا ليس أن يصبح لها مصادر دخل غير مصادر دخل السلطتين الأخرتين ، إنما يقصد بها أن لا تستخدم الأمور المالية كوسيلة ضغط على السلطة القضائية .
ج-إستقلالها في إتخاذ القرارات والأحكام دون تدخل من أي سلطة أخرى .
د-إستقلالها في البت في المسائل المتعلقة بإختصاصها .
هـ-حفاظها على الإجراءات القانونية المنصفة للأطراف وإصدار الأحكام مسببة وعلى السلطتين الأخرتين إحترام ذلك والعمل بموجبه .
2- الإستقلال الفردي : ونقصد من هذا الإستقلال هو إستقلال أشخاص الهيئة القضائية أنفسهم ، ويعني ذلك فسح المجال أمام القضاة كأشخاص في حرية إصدار الأحكام والقيام بوظائفهم على أكمل وجه دون توجيه إنتقادات لهم ولا تأديب ولا عزل وغيره من الأمور التي تصدر من السلطتين التشريعية والتنفيذية والتي قد تأثر سلباً على إجتهاد القاضي في إصدار حكمه ، ولكي يتحقق هذا النوع من الإستقلالية يجب علينا غل يد السلطتين السابقتين عن بعض الأمور ، وإخضاعها ليد السلطة القضائية فقط ، هذه الأمور هي التالية :
أ- تعيين القضاة : وهنا يجب أن تراعي السلطة القضائية توافر الشروط اللازم توافرها في القضاة من عدالة ونزاهة وحياد وغيره من الشروط ، ولعل هذه الطريقة لتعيين القضاة وإبعاد يد السلطة التنفيذية عن تعيينهم بأي طريقة أو وسيلة كانت هو أهم الطرق لتحقيق الإستقلال الفردي للقضاة لأن القاضي آن ذاك سيكون على يقين تام بأن لا سلطان عليه من قبل السلطة التنفيذية .
ب- الأمن الوظيفي وضمان الإستقرار لهم : لا يقل أهمية توفير الأمن الوظيفي وضمان إستقرارهم في مناصبهم القضائية لفترات طويلة دون عزل ولا فصل عن تعيين القضاة حيث أن ضمان بقائهم يجعل من القاضي شخص نزيه لا يرضخ لما قد يعرض عليه من رشاوى وغيرها ، لذلك أصبح القضاة في الدول ذات السلطة القضائية النزيهة باقين في مناصبهم فترات طويلة ، كما أن بقائهم لفترات طويلة كفيل بضمان ثقة المتخاصمين بنزاهة القضاء دون شك ولا ريبة .
ج- الأمن المالي : ورد معنا في الإستقلال المؤسسي أن يتم توفير حماية مالية وتخصيص ميزانية للسلطة القضائية لا سلطان عليها من قبل السلطات الأخرى ، ولكن الوضع هنا يختلف عن سابقه حيث المقصود هنا بالأمن المالي هو إعطاء الهيئة القضائية الأجور الملائمة لمكانتهم ووضعهم وما قد يلاقونه من مغريات ، على سبيل المثال لو أعطي أحد القضاة أجر ضعيف فهو ينظر قضايا عديدة من بينها قضايا تجار مخدرات وغيرهم ممن بإستطاعتهم دفع مبالغ ضخمة لكي يحكم ببرائتهم ، فلو لم يعطى القاضي الأجر المناسب فبالتأكيد سيتقاضى رشوة وغيره من الأمور التي تعيق نزاهة القضاء .
د- ترقية القضاة : يجب للسلطة القضائية أن تتعامل مع ترقية القضاة بكل حذر وحيطه ، لذلك هي ملزمة بأن تتحقق من مدى أحقية القاضاة المراد ترقيتهم عن غيرهم لكي لا يكون ذلك عائقاً لنزاهة القضاء .
هـ- الجزاءات والعقوبات للقضاة : يدخل تحت هذه الجزئية كل ما يتعلق بالقضاة من جزاءات وعقوبات منها العزل والتأديب والنقل وغيره ومن هذا المبدأ يتضح لدينا أن القضاة يمكن أن يعزلوا أو يوقفوا عن عملهم ولكن يخضع ذلك لشرط أساسي هو عدم القدرة على القيام بالعمل أو إقتراف سلوك يجعل القاضي غير قادر على مواصلة مهامه ، على أن يكون ذلك وفقاً لمعايير ونمط معين ومحدد مسبقاً .كما أنه يجوز تأديب القضاة بأي طريقة مناسبة شرط أن يخضعون لمحاكمة عادلة تشرف عليها السلطة التنفيذية على أن تحترم تلك الأخيرة مبدأي الإستقلال والنزاهة للقضاء ، ولعل هذه الجهة متمثلة لدينا بالمملكة في ديوان المظالم ، كما أنه يجب أن يخضع القاضي لمحاكمة منصفة قابلة لإعادة النظر .
و- حرية التعبير : عندما يصبح للقاضي حرية في التعبير وفي إبداء رأيه بكل صراحة دون خوف أو تخوف ، يجعله ذلك أكثر قدرة على تحقيق النزاهة المطلوبة ، لأن الأحكام القضائية تخضع بنسبة كبيرة إلى رأي القاضي فإن تقيد رأيه أصبح الحكم مقيد بالسلطة التي قيدت رأي مصدره ، ومن هنا نجد أن لحرية التعبير أهمية قصوى في تحقيق النزاهة القضائية المرجوة .
ز- تدريب القضاة وتثقيفهم على المستجدات : عندما يتم تدريب القضاة و تثقيفهم على المستجدات الشرعية والقانونية ، نجد أنه من الضروري وجود مثل ذلك في السلطة القضائية ، لأن ذلك من شأنه أن يوسع من معرفة القضاة بحقوق المتخاصمين بصورة أكبر يتحقق معها نزاهة قضائية بنسبة كبيرة ، وكلما زاد التدريب والتثقيف زادت معه هذه النزاهة .
وهنا نكون قد أنهينا الجزء المتعلق بالأشخاص الرئيسيين في السلطة القضائية والذين هم القضاة ومن في حكمهم (الهيئة القضائية) ، وبتوفر جميع ما عناصر الإستقلال المذكورة أعلاه نكون قد حققنا الجزء الأكبر من نزاهة السلطة القضائية ، حيث يتبقى لنا بعض الأجزاء البسيطة التي تتعلق بالأشخاص المساعدين للهيئة القضائية وهم المدعون العامون والمحامون ، ولن نخوض كثيراً في شرح ما يتعلق بهم نظراً لكون التشابه كبير بينهم وبين ما يتعلق بالهيئة القضائية .
إستقلال المدعين العاميين والمحققين لتحقيق نزاهة القضاء :
مر معنا قبل قليل إستقلال الهيئة القضائية ، ونظراً لكون التشابه كبير في الأمور المتعلقة بتحقيق الإستقلال ، لذا سأتطرق اليها على شكل نقاط مع شرح مبسط لكل منهم ، ولكي نحقق إستقلال المدعين العامين والذي بدوره يحقق نزاهة القضاء ، لابد علينا من إتباع بعض الطرق التي تتعلق بالمدعين وهي تقابل الإستقلال الفردي للهيئة القضائية ، هي كالآتي :
1- مراعاة توافر المؤهلات العلمية والمهنية المطلوب توافرها أثناء تعيينهم ، وذلك يشمل الشهادات العلمية والخبرات العملية في المجال ، ولا يكتفى ذلك بل يتم تعيين كل مدعي عام في مجال خبرته . وذلك من شأنه حماية حقوق الأفراد الشرعية والقانونية مما يتحقق معه النزاهة في القضاء .
2- عدم ممارسة السلطات الأخرى لأي من الضغوطات على أي المدعين العامين بصدد تأديتهم لوظائفهم بل يجب عليهم حمايتهم من الخطر الذي قد يتعرضون له جراء هذا العمل .
3- حقهم في حرية التعبير في الأمور الشرعية والقانونية دون تدخل من أي شخص آخر سواء كان طبيعي أم إعتباري .
4- ممارسة عملهم بكافة الطرق والوسائل الشرعية دون تدخل من أي شخص يضر بسير التحقيق وعرقلة الإدعاء بالحق العام .
إستقلال المحامين لتحقيق نزاهة القضاء :
المحامون هو الجزء الثالث والأخير من السلطة القضائية ، ذلك الشيء لا يمكن إنكاره عليهم ، ولكي يمكننا أن نصف القضاء بأنه نزيه لا بد أن نحقق الإستقلالية للمحامين ، ويتم تحقيق الإستقلالية لهم من خلال عدة أمور :
1- عدم تعريضهم لأي من صور التعذيب أو الإكراه أو تخويفهم من قبل أي من السلطتين التشريعية أو التنفيذية .
2- تمكينهم من القيام بواجباتهم وتنفيذ التزاماتهم المهنية مثل تقديم المشورة للموكلين في كل ما يتعلق بحقوقهم والتزاماتهم ومساعدة موكليهم وتمثيلهم امام الجهات القضائية وغيرها .
3- إصدار رخص مستقلة لتسهيل عليهم الإجراءات التي تحددها السلطة التنفيذية عند مقابلة موكليهم من السجناء وغيرهم ، وذلك من شأنه تسريع المحاكمة وتمكين المحامي من لقاء موكله .
4- فسح المجال أمامهم للتعبير عن أرائهم الشرعية والقانونية بكل صدق وأمانه وإعطائهم الحق في إنشاء التجمعات التي من شأنها الوصول للغايات التي وضعت لأجلها القوانين بأبسط الطرق وأيسرها .
ومتى ما تحققت إستقلالية هؤلاء الأشخاص نصبح أمام قضاء نزيه عادل لا يشكك أحداً في عدله وحياده ، ومن هذا المنطلق يتضح لدينا أن النزاهة القضائية ليست مجرد كلمة تقال في الصحف والمجلات ، إنما هي عبارة عن مجموعة مبادئ وقواعد لابد من تطبيقها بدقة كي يتحقق المفهوم الموضوعي للنزاهة ، ويتحقق الإستقلال الحقيقي للسلطة القضائية لأن مقياس النزاهة القضائية ليس إلا مقياس لمدى إستقلالية السلطة القضائية عن غيرها من السلطات .
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]